” دمشق القديمة “ لم يحدث فيما مضى أن بدأت مقالي بصلب الموضوع هكذا، دائماً كنت أحاول وضع عنصر التشويق بداية جملي لكن ما رأيته هنا أن التشويق يكمن في الجملة الأولى، ليس من المنطق أن نضع مقدمة لذلك .
لم أكن متأكدة مما سأكتبه بعد، حيث بدأت رحلتي بالمرور على خريطة دمشق ولكن بإمعان النظر إلى عبارة ” الشام القديمة ” كانت كفيلة بثباتي هناك وتكن نقطة البداية للإنطلاق.
المحطة الأولى “حي العمارة “:
هو حيٌّ يختصر تاريخ دمشق القديمة بطريقة بنائه ومعالمه، التي من أهمها باب العمارة -أحد أبواب دمشق السبعة- الذي بناه الرومان، ويرمز إليه بكوكب عطارد.
ويخبّئ هذا الحي في طيّاته سرّاً لم يعد موجوداً هو “سر الباب” الذي تتفرع منه الأزقة والحارات، فالأبواب لم تعد موجودة منذ قرون ولم يبقَ منها سوى أسمائها كـ”باب مصلّى” و “باب توما” و”الجابية” وغيرها.
ومن أروع معالم هذا الحي أيضاً المكتبة الظاهرية -نسبةً للظاهر بيبرس-، والتي اكتست بالزخارف والمنحوتات وضمّت المكتبات العظيمة إضافةً إلى البوابة ذات التصاميم الهندسية، والتي جعلت المكتبة من أهم المواقع التاريخية في دمشق القديمة على الإطلاق.
وكذلك مقام السيدة “رقية بنت الحسين” الذي بُني بطرازٍ معماريّ فارسي ملبّس بالذهب عام 1985م.
لنتجوّل قليلاً في منازل أهالي حي العمارة ذات الطابع الشرقي التقليدي والمزدانة بالزخرفة الإسلاميّة، أبنية أثرية تمتاز بفناءٍ داخليّ واسعٍ تحيط به الغرف وتتوسطه بركة ماء، إضافةً لشجرة الياسمين أو الغاردينيا التي لا يكاد بيت دمشقي يخلو منها، ولا يزال أهلها محافظين على عاداتٍ تربّوا عليها، فنمط العيش في المجتمع الشرقي القديم كان ومازال عائليّاً بامتياز .
المحطة الثانية “سوق الحميدية”:
وهو المدينة التجارية والصناعية في قلب دمشق، وقد وصفه الباحثون بأنه درّة الأسواق .
لم يكن سهلاً لهذا السوق صموده أمام الحرائق وقصف الاحتلال، فهو كالجبل تحمّل العواصف الشديدة، وتشهد الثقوب الغزيرة في سقف السوق المقوّس -التي تتخللها أشعة الشمس- على المعارك التي احتدمت خلال مسيرة عمره الطويل.
أصدقائي…
عند دخولكم لسوق الحميدية حتماً سيستقبلكم بائع “العرقسوس” بزيّه التقليدي حاملاً أدواته على ظهره، ويقدم لكم كوباً يكون لكم شفيعاً في رحلة الشراء الحافلة بضجيج المارة ونداء البائعين، هنا ترى البضائع على اختلاف أنواعها من ملبوساتٍ نسائيّة وأقمشة حريريّة وجوخيّة، ناهيك عن الحليّ والتحف التي تتدلى هنا وهناك معلّقة أمام الحوانيت، ولا ننسى متاجر المرطبات والبوظة العربية والمطاعم الدمشقيّة التراثيّة.
و بنهاية سوق الحميدية لابدّ أن يوقظك المنظرُ الساحر -سواء كنت مسلماً أم مسيحياً، سائحاً أو عابر سبيل- “الجامع الأموي” المحطة الثالثة:
كان ذلك في عام 86 هجري 705 ميلادي عندما أمرَ الخليفة الأموي -الوليد بن عبد الملك- ببناء المسجد الأموي، وجمع له الصنّاع والمهندسين والفنانين من شتّى بلاد العالم.
تعرّض الأمويّ على مر العصور للمآسي والنكبات وعاد ليقف شامخاً من جديد، تراهُ وكأنه متحفٌ دمشقيٌّ تخبر جدرانه بتاريخ أقدم مدينة مأهولة في العالم -دمشق الفيحاء-، فجدران الجامع الخارجيّة مازالت تحتفظ ببقايا زخارف وكتابات رومانية، ومن تحت أحجارها ظهرت آثار آرامية، و البقايا البيزنطيّة تتجلّى في تيجان أعمدته، أما البصمة الأموية فهي الأوضح والأبقى من خلال مخطط الجامع وبقاياه الأصلية كالفسيفساء والزخارف والنوافذ, كما يوجد بقايا سلجوقية وأيوبيّة ومملوكيّة، فهو الأموي درّةٌ نفيسة تجتمع فيها عراقة الأمم كلّها .
ونمضي إلى جنوب غرب الجامع الأموي حيث تقع….
المحطة الرابعة “البيمارستان النوري”:
بناه الملك نور الدين الزنكي وخصّصه للفقراء والمساكين، يتسع البيمارستان لألف وثلاثمئة سرير، بالإضافة لكونه مركزاً علاجيّاً ومقرّاً لتدريس وإعداد طلاب الطب قديماً -من أهم خريجيه ابن سينا والزهراوي -، كما كان مقصداً للأغنياء أحياناً عند حاجتهم لبعض الأدوية.
قال ابن الجبير فيه: “الأطباء يبكّرون إليه كل يوم، يتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الدواء والغذاء، وللمجانين أيضاً هناك احتواء وعلاج”.
انتهى عصر البيمارستان بعد بناء المشفى الجديد بدمشق وغادره أطباؤه العشرون إلى الأبد وكان ذلك في أوائل القرن الرابع عشر، وتحول سنة 1318ميلادية ومن ثم مدرسة تجارية عام 1358ميلادية, ورمم أخيراً عام 1396ميلادية ليتحول إلى متحفٍ للطب والعلوم عند العرب.
ما زال هناك المئات من المحطات التي تنتظر لتروى حكاياتها وتؤرشف ذكرياتها، وسنكون سعداء للغاية بمشاركتنا لها.
رغد شربجي
محرر محتوى
طالبة هندسة جينات
مهتمة بالتراث السوري وكل ما يتعلق بسوريا.
مصدر مقالة محطّات دمشقيّة هو لدّات.