كثيرًا ما كتبتُ عن الحبّ، حتّى وجدتُني قد بدأتُ بتأليفِ كتابٍ فيه، ووضعتُ مقدّمته ريثما يأذنُ الدّهر باستكمال فصوله، بيد أنّي -وعلى عادتي- أصدّ النفسَ عن هذا المسلك، وأحتفظُ بما كتبتُ في جوفِ حاسوبي، اقرأ ما كتبتُ وقتَ خِلوتي، غيرَ أنّي هذه المرّة أحببتُ أن أنفثَ لكم بعضًا من عبقِ هذي القيمة الإنسانيّة، أو لأقل: القيمة الإنسانيّة الكاملة.
في سُرى الليل، يبصرُ المحبُّ طريقَه، لا بنورٍ في الطّريق؛ بل بنورٍ من القلب، وما أعظمَه من حبٍّ! هذا الّذي يأتي بينَك وبين الله لا خوفًا ولا طمعًا، إنّما لذاتِه، حبٌ ابتعد عن مداركِ الخوفِ إذ يقي الجسدَ ما يُتعِبه، وابتعد عن مطامع الجسد؛ لئلّا يُرضيه بما يشتهي.
وبينهما سبرُ غورٍ كثيرةٌ خطانا فيه، بين الرّوح والجسد، بين حبٍّ لذاته –لا يُعلّل- وبين حبّ الخوفِ والطّمع، أحدهما منزلُه السموّ، وآخرُ مردّه إلى أصلِه، إلى تراب!
في الحبّ الإنسيّ، قد يصل صاحبُه لدرجاتٍ يحسبُها هي الكمال، ولا يمكنه تخيّل ما بعدها، ذلك أنّها أقصى غاياته وأرجى أمنياته، وما تَنَكُّرُ القومِ لمعنى الحبّ وانحرافُهم عن مساره إلّا توكيدٌ أنّ الحبّ في زمننا: هو فطرةُ الله المضيّعة، يُعلِمُك ذلك أنّ النّاس ما انفكّوا يُلحقون أنفسَهم بردائه وجلبابه، وأنّى لهم ذلك؟! يدلّك على كذبِ ادّعائهم أن لو كانوا بحقٍّ من أهلِه لما وجدتَهم ينصرفون إلى متاعِ الجسد، ويحيدون عن نقاء الرّوح، وكفاني بهذا شاهدًا ودليلًا.
وفهمُ هذا الحبّ ومعرفة كنهِه لا يتأتّى إلّا بكونه توفيقًا ربّانيًّا، يسّر الثّقةَ بين القلوب، وزرعَ غيرةً منضبطةً بلا شططٍ فيه، وأودعَ هِمّة في التضحيةِ بينهما لا يسألون فيما أُنفِقَت ولا لمَ بُذلَت؟ ولا يحسَبَنّ أحدٌ أنّ هذا الحبّ بين القلوب كثير، وأهلُه متوافرون؛ بل لعمري إنّه ليعُزّ عليكَ أن تجدَ مثالًا بين معارفِك قد نذروا أنفسَهم للحبّ واتخذوه شِرعةً ومنهاجًا، فلا يغرّنّك عواطفُ القومِ المتناثرةُ بين الملأ، ولا كلماتٌ التنميق الخدّاعة؛ لكنّه الحبّ، يجدُ المرءُ نفسَه صابيًا إليه في عليائه فيحاول أن يتزيّا بزيّ المحبّين، وما أندرَهم!
قد يسأل سائل: ما دمتَ تكتبُ عن الحبّ الإنسيّ، لمَ استفتحتَ كلامَك بحبّ العبدِ ربَّه؟
اعلم -رعاك الله- أنّ الحبّ ممّا أودِع في النّفوسِ إيداعًا، فهو من الفِطَر، ولا بدّ من مودِعٍ له، فذكرُ موجِدِه هو اعترافٌ وإقرار وشكرٌ خفيّ، وفي ذلك تبرّكٌ بالخالقِ الفاطر؛ إذ لاسمه واستحضاره خشعةٌ في القلب ورقةٌ نورَثُها -إن شاء الله- وأمّا واسطَة العِقد فإنّها بدوامِ هذا الحبّ، فلا دوامَ لحبٍّ خاضعٍ للإسلامِ يرتضيه المسلمُ إلّا وشِرعة الله فيه حاضرة، وقلبُ المحبّيْن عليها متآلفةٌ، فالمحبّ لا يرضى لحبيبه أذىً في الدّيانة؛ بل يعثرانِ فيقوّمان، فينهضانِ، وهكذا حالهم: شدٌّ وعزْم، زللٌ فثبوت، رفءٌ وجمع، تداركٌ قبل موجِبات التفارُق، أُنْسٌ وحُسْنُ معشَر، وما داما بهذه الحال، فإنّ القلبَ ينماعُ بخليلِه، ولا يكاد يجدُهما أذىً أو ضنكٌ يفسدُ لحظتَهما أو يكدّر عيشَهما.
هذا حال مَن أحبّ فوصَل، أو وصلَ فأحبّ، بعيدًا عمّن يكابدُ النّار في قلبِه وليس لإطفائها من سبيل، فهذا كسير الفؤاد نهيض الجناح، ينتظرُ مَن تفكّ وثاقَه، وهو مع الانتظار إنّما يغزوه النّحول، ويبدو في قلبه الذّهول، فضلًا عن ملامحِ وجهه، فمَن كان ذا حالُه فلا تشمتنّ به فهو بهذي النّار المُحرقةِ قلبَه من أسعدِ النّاس وأقنعِهم، قانعًا بكلّ قليل، بدعاءٍ في جوف اللّيل، أو نظرةِ فجأةٍ إن بدَت هيَ أمامَه، فلا يزيد، تجدُه سارحَ الفكرِ ودائمَ الابتسامةِ في وحدتِه، حين تجلسُ إليه كأنّ همومًا انطلقتْ من صدرِه بتنهيداتٍ عتيّة وجفونٍ مغمَضة، فتعلمُ أنّه عاشقٌ علِق، متيّمٌ كلِف، هائمٌ دَلِه، وما ضرّه النّحول والذّبول؟ ما دام يدفعُ عن قلبه سياجَ العُزلَة؛ بل يحصّن قلبَه ويحمي حِماه، ولا يقبلُ إلّا واحدةً -تغزو شغافَه- قبولَ طبعٍ لا ديانة.
هذا الحبّ بقداسته –لو قدِرنا على تقديسه في محرابِ قلوبنا- لأمكنَه أن يجعلَ الحياةَ نضِرَةً خضِرة، لا سوداويةَ ولا هتكَ لستارِ القلوبِ؛ بل رفءٌ وجمع، قربٌ لا بعد، خفضٌ للجناح، تداوٍ مع المحبوب حينَ الكلوم؛ غيرَ أنّ هذا كلّه ممّا يندُر بين القلوبِ الدنيويّة، فمَن ظفرَ بشيءٍ من هذا الحبّ فكأنّما بلغَ المدى في حياته على هذه البسيطة، والشّيء من الحبّ يعدِل الأشياء من غيرِه مجتمعة، فيا أيّها المحبّون، وأنتم قليل، لا أراكم الله فراقًا، ولا أذاقكم مرّ الهجران فيما أنتم مقبلون عليه، وقِفوا على شارفةٍ من الجبل وقولوا: الطّريق طويل صعيب؛ لكنّ الحبّ لا يُنال إلّا بالتّضحية؛ بل أشدّ التّضحية، وهذا طريقُ الوصل، أنالكُم الله إيّاه وأعانكم على سلكِه بما يرضيه.