أحلام يقظة
سُئلتُ ذاتَ مرةٍ عن أحدِ أكبر الأحلام التي أوَدُّ تحقيقها يوماً، لَقيَ جوابي حينها بعض الاستهجان؛ إذ لم أكن مُوضحةً ما أرمي إليه، قلتُ أنّي أريدُ أن أصبحَ ثريّة، أُريدُ أن أملِكَ الكثير من المال.
في ذات اليوم تكررت المشاهدُ المؤسفة أمامي في شوارع رام الله، مَشاهدٌ في مدينة تدّعي كونها العاصمة الثانيّة، مدينةٌ تدّعي استقلالها. لم أُعِر المرأة التي طلبت مني المال في أحد الشوارِع اهتمامًا، لكنّي ألقيتُ نظرةَ شفقة على الرضيع الذي تحمِلُه بيدها وسط زحامِ السياراتِ، في الضبابِ الكثيفِ تحتَ المطر، وتساءلتُ ما الذي يدفعها لمثل هذا الفعل، ولِما تُعرّض الرضيع للخطر هكذا؟ هل هي بحاجة النقود فعلًا أمْ أنّها شركاتٌ خاصة ترعى هؤلاء المتسولين؟!
بِضعُ خطواتٍ أُخرى في المدينةِ أتفحصُ فيها الشوارع الخَربة جيدًا، وأعود بذاكرتي لمشهدِ المتسوّلة وولدها الرضيع، وأشعرُ بالأسف، فاصطدمُ بطفلٍ لا يتجاوزُ العاشرة، ملابسُه رثّة، لا تليقُ بجوِّ شهر “ديسمبر”، بيده حبّات شوكولاتة، قال لي: “الله يجوزكِ اللي بتحبّيه، اشتري مني” رفضتُ معللةً ارتباطي أصلًا بمن أُحب، ومَشيتُ فلحقَني: “اشتري مني الله يخليكِ” كانت أسنانه تصطك بردًا، أخرجتُ محفظتي، وأعطيتهُ ما استطعتُ ومشيت.
هُنا شتمتُ الأهالي الذين يُجبرونَ أولادهم على هكذا أفعال، ثم استذنبت نفسي فعُدت بفعل الشتيمةِ إلى الظروف المُحيطة، وقلتُ لو أنّني أملكُ النقودَ فحسب! في مشهدٍ ثالثٍ ورابعٍ وخامسٍ، هذا طالبٌ جامعيّ طَموح، أثقلَت كاهلَه الديونُ المتراكمة للجامعة ففُصِل؛ ليس لدى عائلته ما يُكمل بهِ تعليمه، وذاك ليس لديه ما يسُد به جوعه بين المُحاضرات … حمدتُ الرّب على ما أملكه، وفكّرت لو أنني لم أحصل على منحةٍ دراسية تخفف عن كاهل أبي مصاريف جامعتنا أنا وأخي لكُنا كوضع هؤلاء، إن لم يكن أكثر سوءًا، فكرتُ لوهلةٍ، لمَ رجالُ الأعمال هنا والأثرياء لا يخصصونَ من أموالهم الهائلة لدعم الطموحين من الطلبة، الذين لا يستطيعون إكمال تعليمهم؟ لمَ لا يبنون مؤسساتٍ لدعم المشردين والأيتام ؟ لعنت الجشعَ وأخبرتُ الرّب أني سأفعل كلّ هذا لو أصبحتُ أملكُ نصف ما يمكلون.
في ذات اليوم توفيّ عبد المحسن القطان، ولم يكن اسمُه غريباً عليّ؛ فأنا مُتطوعة منذُ شهرين في إحدى مؤسساته في رام الله، وكنتُ أعلمُ عنه القليلَ فقررتُ الاستازدة، وحالَ البدء بالقراءةِ أحسستُ أني خسرتُ نصفَ عُمُري، إنْ لم يكن كُله! سألتُ نفسي مُستنكِرة: “لِمَ لمْ أعلم شيئًا عن هذا المكتوب هُنا مِن قبل لِمَ لمْ أسعى لرؤية هذا الرّجلّ المتواضع مِن قبل؟ ” كأني في عقله، أحتوي تفكيرَه ويحتوي تفكيري، عبد المحسن القطان الرّجلّ الوطنيّ الذي يُقدّسُ ترابَ وطنه، والذي لم تزدهُ ثروتُه إلا تواضعًا، والذي كان مع الأقليّة الضعيفة في الكويت، في حين كانت منظمة التحرير مع أفعال صدّام، اليافاويّ الذي هُجّرَ من موطنه تهجيرَ الجسدِ لكنّ الروحَ ظلّت هُنا، العظيم المِعطاء!
بدايات القطان
ولأنَّ ما فعله كثير، فارتأيتُ أن أُدشنَّ القليلَ مِن أفعالِه التي لا تُحصى، لأنّ شخصيةً كالقطان لا تستحقُّ أن يُحدّثَ عنها فحسب، بل إنّ رَفعُ الهاماتِ بحقّها قليل.
القطان، الرّجُلّ اليافاويّ الذي هُجّر مِن فلسطين عام 1948، ليلتَحقَ بأهلِه في الأردن بعدها، ثمَّ تدفعه ميولاته البعثيّة بالسفر خارجًا؛ ليصبحَ مُدرّسًا في الكويت، ويعمل مسؤولًا في وزارة المياه والكهرباء، فيترُك كلّ هذا فيما بعد، ويُنشئَ شركاتَه الخاصّة التي أصبحت مصدرًا لثروته.
القطان في السياسة
لم ينقطع القطان عن العمل السياسيّ، وكان مقرّبًا مِن “منظمة التحرير الفلسطينيّة”؛ حيثُ تنقلّ بين بيروت والقاهرة، واستمر عضوًا في “المجلسِ الوطني الفلسطيني” حتى استقالته في عامِ 1990. بعد ذلك ترك القطان السياسة إلى عثارها ووبائها وبقعها، وقرّر منذُ أربعةِ عقود الانصراف إلى عمل الإحسان والخير، وقد جعل ذلك عملًا منظمًا؛ فأنشأَ مؤسسةً تحملُ اسمه.
عن المؤسسة
جعل المعطاء رأسمالًا لمؤسسته بقيمة مئة مليون دولار، وكان مقرّها الأساسيّ في لندن ومقارّها الأخرى في غزة ورام الله. وضمّت “مؤسسة عبد المحسن القطان” مركزًا للبحثِ والتطوير التربويّ، و “مركز القطان للطفل” في غزة الذي يقدّم خدمات ثقافيّة ومكتبيّة وتدريبيّة وترفيهيّة نوعيّة للأطفال حتى سن 15 عامًا، وفي عام 2011، أعلّنَ القطانُ عن تخصيص ربع ثروته؛ لإنشاء صندوق لضمان استدامة واستقلاليّة المؤسسة التي تحمل اسمه، كما أعلّن عن تأسيس “معهد دراسات استراتيجيّة مُستقل”، يقدّم بحوثًا في “زوايّا متعدّدة ذات علاقة بالقضيّة الفلسطينيّة”. ولم يقتصر دعم القطان لمؤسساته فقط فقد قدّم القطان في حياته دعمًا لجهات مختلفة، من بينها “مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة”، و”الجامعة الأميركيّة” في بيروت، و”مركز دراسات الوحدة العربيّة”، وجامعتَي “بيرزيت” و”النجاح”، و”مؤسسة أحمد بهاء الدين” في مصر.
يقول صديق القطان سمير عطا الله: “رافقت «أبو هاني» طويلًا في الكويت ولندن وبيروت وصيف جنوب فرنسا، ولا أذكر مرة أنّني رأيته غاضبًا، أو سمعتُه عاتبًا، أو لاحظت فيه غرورًا على كلّ ما فيه من رفعة،ولا مرة رأيته متنازلًا أو مسايرًا أو ضعيفًا، كان هامة من ماسٍ ومن ذهب، وقامة من نُبل وفكر، لم يتنازل للسياسة، ولم يَضعُف أمام المال، ولم يتهاون للحظة في صورته كمثال عربيّ، وغابَ كما عاش، معتزًا بالعروبة، حزينًا على العرب.
لروحكَ الطاهرةِ السّلام، يا مَن ابتغى لوطنه الخير والسّلام.
Continue reading أنا و القطان: جسدان مفترقان،تفكيرٌ واحد at BirHakaya – بيرحكايا.