رام الله بلا بسطات …تجريد الواقِع من واقعيّته

كتبتها: غدير بركات  

للمرّة الأولى  أسير في مدينة رام الله دون أن أرى بائعي البسطات يجلسون في أماكنهم المُعتادة، عندها يراودني سؤال واحد؛ ألا وهو  أين اختفى  هؤلاء بين ليلة وضحاها؟!، لأكتشف لاحقاً أن هناك قانون قد صدرَ بمنعِ كلّ بائعي البسطات من الجلوس للبيع في كل أنحاء مدينة رام الله، ودون مقدّمات أو سابق إنذار، يأتي هذا  القرار  ويزال أيّ أثر لهم، و على الجميع الالتزام بالقانون !

وتحُل الدّهشة المُمتزجة بالإحباط حيناً، والسخرية حيناً آخر. فالإحباط ينبثق من منطلق أن  أصحاب البسطات أشخاص لا يملكون القدرة على فتح محال تجارية أو الاستئجار، و ليست لديهم خيارات أخرى، أشخاصٌ يبحثون عن رِزقهم بأبسط الطرق، السّخرية تكمن في كونِه قرار لا يُنصف أحد؛ سوى أولئك الذين يحسبون أنّ بائعاً قد يُعرقل مرورهم عن مواعيد الوَطن، الوطن الذي قام وسيظلّ قائماً على أكُفّ البُسطاء.

إن ظاهرة وجود البسطات في مدينة رام الله تُعطي انطباعًا عن واقع الشّعب، فهل يُفترض أن تُمثّل مدينة رام الله البُرجوازيين فقط؟، و هل يُفترض أن تعكِس الأضواءً والزينة؟، سيما المحال التجاريّة الراقية لتناسِب مشروع تحويلها إلى عاصمة ! إنّ الشعب في حقيقة الأمر ليس بهذا الوضع الرفاهي، ليعكِس  ذلك، إذ لا زال هناك من ليس باستطاعتِهم توفير لُقمة العيش، لا يزال هُناك من يعمل ليل نهار من أجل قوتِ يومِه لا أكثر، لماذا يُفترض تهميش هؤلاء وإقامة وطن للأَغنياء، للذين يجب أن تُفتح لهم الشوارع، ليسيروا مُكابرين، ليس تفقدّاً لأحوال الرعية، وإنما تجاهلاً لأحوال الرعيّة .

 

 

“أيضيق بنا الوطن رُغم اتساعه”،  قيل على لسان أحد البائعين، الذي فقد مصدر دخله الوحيد، إنّ قرار إزالة البسطات دون النّظر بحال أصحابها وما سيحدث لاحقاً، أو توفير مكان بديل لهم، لهو خلقٌ لِحالة اغتراب حقيقي لديهم ، فَكيف يُمكن أن تأخذ منه عمَله؟، وتمنعه من البيع حتّى على رصيف الطريق، إلى أيّ مدى يُمكن له أن يحتمِل، قبل أن ينتهي به المطاف بالاختناق أو لربما  الهجرة، إلى أن  يَخلوَ الوطن إلّا من الذين هدموه بدلَ أن يبنوه.

وبالاتجاه إلى معبر قلنديا تجد أ أصحاب البسطات المُتجوّلة يبيعونهناك،  دون أن  يمنعهُم أحد، وهذا ما يُنشىء فجوة حقيقيّة بين الوعي لدى الافراد، وسلوكِهم تبعاً لهذا  الوعي، فكيف يُمكن أن نتقدم باتجاه الحاجز باحثين عن الحياة، عن لقمة العيش، كيف يتحوّل من كونه عائقاً بيننا وبين الوطن، إلى مكاناً نلتمِس الأمان حولَه، تاركين وراءَنا مكاناً مُنعنا من رصيفه، من البيع على طُرقاته!

ليس القرار الأول ولا الأخير  الذي لا يكتثر بمُعطيات الواقع، ولا يدرُس النتائج، ويخلّف وراءَه مشاكِل مُجتمعية أعمَق من الموجودة. إنّ الانتقال بالقضايا من كونِها رئيسية، إلى ثانويّة، فأقل من ذلك، وأخيراً إلى الهامش، هي سمَة من سمات الحاضِر الذي نعيشه، وأكبر دليل على ذلك هو الإصرار على بقاء المواطن البسيط في الهامش، ليس تقليلاً من شأنهم، فطالما خرجَ من الهامِش أولئك الذين ترَكوا بصمتهم في الواقع، غيّروا وناضلوا بشتّى الطُرق، لكن يبقى السؤال ماذا تبقّى من الروابط بيننا وبين واقِعنا لكي نسعى مهتمّين باتجاه تغييره؟

وعليه نقول لا لإلغاء مساحَة المُواطن البسيط، لا لتَجريده من حُقوقه المشروعة، لا للادّعاء بامتلاك مساحة عامّة وسُلطة المكان، لن يقوم الوطنُ على أكتاف الذي امتلئت جيوبهم وخلت ضمائِرُهم.

Continue reading رام الله بلا بسطات …تجريد الواقِع من واقعيّته at BirHakaya – بيرحكايا.