بقلم :ليان كايد
مَن هو الطّيّب صالح؟
(1929-2009)
“ابنُ التّمازج الحضاريّ والعرقيّ العربيّ الإفريقيّ –السّودان-” روائيّ فذّ، تخرّج من الخرطوم بشهادة البكالوريوس في العلوم، وأكملَ تحصيله في لندن في الشّؤون الدّوليّة، عمل في الإذاعة البريطانيّة، والإذاعة السّودانيّة.
يقول أحمد سعيد محمّديّة: “رأيتُ فيه القدرة الخارقة على الرّؤية والاستبصار والنّفاذ إلى أدقّ الأمور –وهذه ملكة الفنّان فيه- وأدركتُ أنّه لم يعتمد على هذه الموهبة وحسب؛ بل شحذها شحذًا حادًا بالثقافة العربيّة فتزوّد منها كلّ ما وسعتْه المقدرة على التزوّد، فقرأ المعاصرين وتمثّلهم وهضم أعمالهم، وغاص في التّراث فاستلهمَ روحَه، وعايش الثقافة الغربية فكرًا مكتوبًا فقرأ أعمال الكلاسيكيين والمعاصرين الأوروبيين.
كان يذكر المتنبّي وأبا نواس، ويذكر شكسبير وييتس، كانت لديه مقدرةٌ على استخراج اللؤلؤ من أعماق الأدب العربيّ، والجوهرِ من أعماق الآداب الغربيّة –الإنكليزيّة خاصّة- وكانت لديه المقدرة على فهمِ روحي الحضارتيْن والمقارنة الذكيّة بينهما”
أمّا أعمالُه فمنها: عرس الزّين، ضوّ البيت (بندر شاه)، مريود (بندر شاه)، دومة ود حامد، والرّواية الّتي بصدد الكتابة عنها: موسم الهجرة إلى الشّمال، والّتي اختيرتْ واحدةً من أفضلِ مئة روايةٍ عربيّة في القرن العشرين.
تتناول الرّوايةُ حكايةَ بطلِها مصطفى سعيد، إذ كان نابغةً بين أقرانه، أُرسلَ لمصرَ ليجد أفقًا علميًا أرحب، ومن ثمّ إلى الغرب الأوروبيّ، مصطفى سعيد الذي جسّد العلاقةَ والصراعَ بين الشرق والغرب، تدور الأحداث وتبدأ حين عادَ الراوي (مجهول الاسم) إلى قريته على ضفاف النيل في السودان بعد انتهاء تحصيله العلميّ في الغرب الأوروبيّ، متعرفًا على وجه جديد –له- بين أبناء قريته، مصطفى سعيد الذي يمارس حياته كباقي السكان؛ لكن خلف ستار الحياة العادية، كان يخفي أسرارَ قصّته.
هذا الّذي لم تتّسع أرضُ الجنوب له، حصلَ على شهادة الدّكتوراة، وعاش مغامراته العاطفيّة والجنسيّة متنقّلا بين فتاةٍ وأخرى، مستغلًا لون بشرته وخيالات المستشرقين، فهو شهريار الفحلُ وهنّ جواريه.
هذا الحياة المجونيّة بالنّسبة لنا كانت حياةَ انتقامٍ من الغرب بالنّسبة له، إذ يقول: “نعم يا سادتي، إنّني جئتكم غازيًا في عقر داركم، قطرةُ السّم الذي حقنتم به شرايينَ التاريخ” ثمّ يقول: “يا للغرابة، ياللسخرية، الإنسان لمجرّد أنّه خُلق عند خطّ الاستواء، بعض المجانين يعتبرونه عبدًا وبعضهم يعتبرونه إلهًا، أين الاعتدال؟ أين الاستواء؟
فعلاقاته كما يُرى هي انتقامٌ من المستعمِر، انتقامٌ من الغرب، لأجله انتحرت عاشقاتُه بينما هو يقتل زوجته الأوروبيّة ليُحاكَم بعدها تاركًا الغربَ ومنصبَه وكلَ شهاداته التي توحي بنباهته وتميّزه (انتهتْ غزوتُه).
في قريةٍ صغيرةٍ على ضفاف النيل، بدأ حياة جديدة بسيطة كالماء ووجوهِ الفلاحين؛ يقول: “نحن بمقاييس العالم الصناعيّ الأوروبيّ، فلاحون فقراء، ولكنّني حينَ أعانقُ جدّي أحسّ بالغِنى، كأنّني نغمة من دقّات قلب الكون نفسه”
عاد الرّاوي واستلمَ منصبًا في العاصمة الخرطوم، واختفى البطلُ مع فيضان النيل انتحارًا أو غرقًا لا يُدرى، تاركًا رسالته للراوي يوصي بها على زوجِه وغرفته السريّة وأبنائه الاثنيْن الّذيْن يتمنّى حجبَ الغربِ عنهما؛ ليظلّ الرّاوي ملاحقًا لطيفه، يتقصّى حياتَه وأسرارها طوالَ سنين، كأنّه فكرةٌ جدليّة يكتشفُ لها بعدًا جديدًا في كلّ مرحلة.
تتوالى الأحداث، إذ زوجُ مصطفى (حسنة) ترفض الزواج رافضةً بهذا الأعرافَ والتقاليد، وحين أُجبرتْ على الزواج طعنتْ زوجها الجديدَ (كبيرَ السّن) بينما كان الراوي ذا قلبٍ محبٍّ لها.
تصل الرواية إلى لحظةِ فتح الرّاوي لغرفةِ سعيد السريّة، حينها يرى أوروبا مصغّرةً أمامَه، وكلّ ماضيه متجسّدٌ في هذه الغرفة، التي تعجّ بالكتبِ والرّسومات، تختلط أفكار الراوي المحاصر بجدران هذه الغرفة ليقرّر حرقَها بعد أن أشبعَ فضولَه منها؛ لكنه يتراجع أمامَ قراره، ويذهب إلى ماء النيل سابحًا منفسًا عن نفسه، يدفع بجسده إلى الضفة الشمالية، وهناك في الوسط بين الجنوب والشمال أحسّ أنه يغرق، وأنّه يرغب بذلك؛ لكنّ إرادتَه ووجوهَ مَن يحبّوه جعلوه يقفز طالبًا النجدةَ والحياة.
لغة الرواية شاعريّة، ينوّع الكاتبُ فيها بين الألفاظ السهلة والجزلة، مليئةٌ بالصور والتشبيهيات، يطيل الكاتب الوصفَ، والرواية مسرودةٌ على لسان الراوي سردًا في الزّمن الماضي عدا الفصلين الأخيريْن فكانا بالحاضر، يضيف الكاتب في نصّه الحوارَ إلى جانب السرد المباشر.
الرواية غارقة في الرمزيّة على مستوى الشخوص والأحداث، فمصطفى سعيد هو الصراع بين الشرق والغرب، وهو المثقّف المشوّه، الكمبرادوريّ حينًا والوطنيّ حينًا، زمانه زمن ما بعد الكولونيالية، حيث أثر الاستعمار ما يزال باقيًا، ومسرح تواجده السودانُ ولندن (المستعمِر والمستعمَر) وتنتهي الراوية برمزيّة مفادها: “فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب، لن أستطيع المضيّ ولن أستطيع العودة “
الراوية جميلة ماتعة، صفحاتُها تقارب 170 صفحة، برعَ فيها الكاتب بالوصف فتسكن أمكانَها وتعايشُ شخصياتِها، وفيها يعالج الكاتب قضايا هامّة وصراعاتٍ كانت تجري وما زالت، فمن صدام الحضارات، والاستعمار إلى فساد الحكومات، والتقاليد البالية، فلم يُغفل الكاتبُ الجوانبَ الاجتماعيّة كما السياسيّة والعالميّة، فهو مفكّرٌ بالدرجة الأولى كما هو قاصّ روائيٌّ بارع، ربما كان إباحيًا، وكثيرون أخذوا عليه هذا المأخذ –من القرّاء-؛ لكنّه في أدبِ هذا العصرِ أمرٌ يجبُ ألّا يؤثّر في معياريّة جودةِ النصّ، أضِف لهذا أنّه أحسنَ توظيفَ تلك المشاهد الجنسيّة لغاية النّص فأغنتْه.
Continue reading الطّيّب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال at BirHakaya – بيرحكايا.