بقلم: غدير بركات
يقول جوزيف كامبل “يقول الناس إن ما نبحث عنه هو أن نُعطي للحياة معنى، وأنا أعتقد أن ما نبحَث عنه هو أن نشعر بأنّنا أحياء حتى نسمع صدى خبرات حياتنا على المستوى المادي الظاهري، على كياناتنا الداخلية العميقة، حتى نستَشعر فعلاً المُتعة الهائلة لأننا أحياء..”
ماذا ان لم نعد نستَشعر بمعنى الحياة كَوجود كامِن داخلنا، ان صارت روتين ممل، ان لم نعُد قادرين على الخروج عن المألوف، ماذا ان تحوّلنا جميعاً لنصير نُسخ مكرّرة؟
هل شعرت مسبقاً أن رغبتك بشيء معين تتحوّل الى نُفور عنه، هل شعرت بأنّ أحدهم كان مقرب لك ولم تعُد تراه كذلك، او أن هواية ما لديك لم تعد تهمّك كالسابق، انه أمر عادي جداً، انه أمر متعلق بمزاجك، بالقبول والنفور، بالرغبة والشغف، بالروتين والملل، بمدى اقبالك على الحياة أو هُروبك منها.
نظرة أكثر عمقاً
كل الأشياء تحدث بالتدريج ولا تحدث من تلقاء نفسها، اما أن تترك الزمن يتحكّم بك، وتترك الأحداث تمرّ، دون أن تتدخّل، واما أن تملك خيارك، لا تصدق من يقول بأنه مجبر على شيء، الاية تقول (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وقِس ذلك على كلّ شيء اخر، من شاء فليجلس ومن شاء فليسعى، من شاء فليقاوم ومن شاء فليستسلم للحياة..
أنت تشعر بأن الأشياء بدأت تتغيّر لأنك كبرت فجأة، ولكن الواقع لم يكبر، ظلّ كما هو، وبدأت الفجوة بينك وبين أشياءك تكبر، لم تفتح لك الحياة الابواب التي حلُمت بها، ولا الطرق التي نويت أن تسلكها، فراشاتك التي طالما لاحقتها، لم تعُد تُلهمك، لقد كبرت على الفراشات، صار أمامك عالماً متّسع الحدود، جغرافيا الواقع بخريطة جديدة غير التي كنتَ تحفظها.
تختَلس النظر من النافذة بدل من أن تتأمّل الواقع الخارجي، لأن الصورة ذاتها التي كُنت تراها لوحة فنيّة ، سماء زرقاء وغيوم تتشكّل على هيئات مختلفة، تشبه مرّةً دراجة هوائية، أو عصفور بأجنحة كثير، صارت صورة باردة بلا دفىء ولا وحي من الخيال، وصندوق ذكرياتك القديمة ملئه الغبار منذ فترة لم تتفقده ، ما ذنب ذكرياتك ان مللت واقعك!
لم يكُن المحبط بالواقع كونه لم يعد يُشبهك، بل كونك لم تعد قادراً على أن تُشبه شيء، صرت بعيداً عن شغفِك، عن هواياتك، وأصدقائك، لأنك فجأة مللت كل شيء وبدأت تغادر كل الاماكن الصاخبة، وكل الالوان المبهجة، ضوءاً مشعّاً انطفأ داخلك، وحلت عتمةً مكانه .
لا بأس !
عليك ان تعرف شيئاً مهماً، تلكَ هواياتك، عليكَ أن تحميها، لديكَ أحلام دافع عنها، ليس بمقدور أحد ان يفعل ذلك من أجلك، الامر متعلّق بك أنت، توقف عن ربط كل شيء بحالتك المزاجية، اذا بقيت كذلك سوف تتسبب لنفسك بالتعاسة فقط لأنك تفقد السيطر على انفعالاتك، تُبالغ بحزنك، وأحياناً بِفرحك، تغضب اكثر مما يجب، تهرب حين يتحتّم عليك أن تواجه، تغلق نافذتك، في الوقت الذي تنتظر نسائم الصباح خارجاً، وتَحول تلك النافذة بينك وبين صباح جميل قد يُحسّن مزاجك، تحكّم به ولا تدعه يتحكّم بك .
يقولون ان هواء أيلول وتشرين لديه أثر كئيب على نفسيتك، والدخول بالخريف يُصيبك ببعض البؤس، لا تصدّق ذلك، أنت يا صديقي صرت تُصدّق كل ما يقال، لا علاقة للشهور بذلك الامر، انّه داخلك فقط، هناك من يكتأب في آب ايضاً رغم أنه فصل الربيع والورود، لا تربط نفسيتك بالاشياء، وتُلقي باللوم على شهر قد يكون لا ذنب له بِسيكولوجيا المزاج .
لن تستطيع الغاء كل ذلك لا يمكن ان تفرح دائماً أن تستمر بالضحك لوقت طويل، أو تبقى متفائلاً بالحياة في كل المواقف، ليس بمقدورك العيش بحالة مزاجية واحدة انه أمر يحوّلك الى الة، لا تتفاعل مع الواقع بظروفه وحالاته، انّ الاتزّان النفسي يتمثل بحالات مزاجية مختلفة، فمشاعر الحب والخوف والغضب والاحباط ، كلها تخلق مزيجاً يجعلك أكثر قدرة على قبول الاحداث والتعامل معها، ان أعمق سعادة تشعر بها بعد أن تكون حزنت بشدة على أمر ما، وأكثر اشراقة شمس تتخّل أعماقك تلك التي تدخل من ثقب ما أحدثته الحياة داخلك، آلمكَ حينها ثم أضاءك فيما بعد ..
اقبل فِطرَتَك ..
ما المشكلة ان حزنت لأمر ما ، او توقفت فجأة أمام مشهد اصابك بالبؤس، لماذا عليك ان لا تحزن، ان الامر المهم هو أن تتجاوز حزنك، أن تتخطى بؤسك، لكن لا تصدق من يطلب منك ان لا تحزن لشيء ، لقد فّطرت على ذلك، لا يُمكنك نزع قلبك عن فطرته، سيبقى يبُث فيك الفرح والحزن والشغف، لا تُسرف في الامر وتحكّم بذلك.. وحسب..
أوقف نفسك فوراً ان فقدتَ السّيطرة على الأمور، أيقِظ شغفكَ باتجاه الأشياء كلّما غفا، وضوءَك الخاص كُلّما خبا، ابحث عن ألوانك الهاربة وأعدها مجدّداً،عن فراشاتك التائهة ودُلّها طريقها،لا تهجُر خيالَك ستحتاجُه كلّما اشتدّ بُؤس الواقع، أعدّ فنجاناً من القهوة في كأسك التي تُحب، وابدأ بقراءة روايةً جديدة.
أنت حُر فلا تخترع لنفسِك قيود، انت مُخيّر فلا تُصر على كونك مُجبر، أنت مُضيء، فلا تقبل بانطفاء الأمل فيك، لديكَ بذرة الاختلاف كي لا تكون نُسخة مكرّرة، فلا تقبل بالانصهار بالواقع، لا تسمح لأي ظرف ان يُلغيك، لا تخف ان سرت بعكس الناس، اخرج عن المألوف فإن المألوف قد غدا مُملاً وبائساً، العالم بحاجة الى لون جديد، لأنّه يُصبح باهتاً شيئاً فشيئاً فكُن انت ذلك اللون..