وُلِدنا جميعًا بعقلٍ ميزتهُ الأولى الرغبة بالمعرفة، فضولٌ تجاهَ كلّ شَيء؛ نريد أن نعرفَ اسمَيّ والدَيْنا، معنى المكتوب على لافتات الشوارِع، أسماء الألوان، وكلّ ما في هذا الكونِ من تفاصيلٍ. ولكن، كثيرون منّا وقفُوا عندَ مفاهيمَ أعمقَ من اللّغة، وأبلغ من الكلام! مثلاً، أيُّ مصطلحٍ يستطيع تفسيرَ الحبِّ ويعطيهُ حقّه كاملاً؟ أيُّنا تُسعفُه لغتُه حين يحاولُ شَرح الشعورَ الّذي يعيشه، التجاربَ الّتي تُؤلمُه، السعادة الّتي تغمره؟ وهذا ما نفعله هنا تماماً، نُحاول تطويع اللّغة لشرح مفهومٍ آخر، وهو الرّوح.
الروح لغةً:
نبدأ بالحديث عن الروح لغويًّا، عندَ العربِ كمثال، يرَون أنّ الروحَ قريبةٌ من كلمة “ريح” فهي بذلك رمزٌ لشيءٍ خفيف طائرٍ لا ملموس، خفيٍّ لكنّه موجودٌ في النّهاية وإن لم نشعرْ به. وزادَ من إيمان العرب بهذا التعريف ما ذُكِرَ في القرآن بأن الرّوحَ منفوخةٌ في الجسد, قال تعالى: “ونَفَخنا فيه من روحِنا” والرّيحُ هي التي تُنفَخ. من هُنا نصلُ إلى الرّوح في القرآن، وهذا أمرٌ سنذكره في نهاية المقال؛ لنختمَه بمسك الختام.
الروح فلسفةً:
فلسفيّاً، الرّوح: هيَ كينونةٌ لا يوجد الإنسان دونَها، وهي أقربُ إلى الوعي منها إلى المادّة؛ فالروح لا تُرى ولكنّها تُوعى. بدايةً، رأى أفلاطون أنّ الروحَ تتكوّن من ثلاثةِ أقسام: النّفس، و الرغبة، والعقل، ويتصارع هؤلاء الثلاثة؛ لحفظ توازن الإنسان. فالنّفس: هي الرّغبات العاطفيّة، والشعوريّة… والرّغبة: هي متطلّبات الجسد، والعقل: هو ما يخلق التوازن بين متطلبات الجسد، والمتطلبات الشعوريّة، والعاطفيّة. أمّا ديكارت فقد رأى أنّ الروحَ موجودةٌ فعلاً، وتقع في منطقةٍ في دماغ الإنسان، وحاول جاهدًا إيجادها. آرسطو رأى أن الروحَ ملتصقةٌ بالجسد، تموت بموته… وأنكر خلودَ الروح. هكذا، فإن كلّ اتجاه فلسفي كان له رأي بخصوص الروح، ولم يتمَّ حسمُ المعنى الحقيقيِّ للروح، إنما كانت هناك إجماعاتٌ على بعض التعاريف أكثرَ من غيرها.
قبل أن نتطرّق إلى الروح في القرآن، يجب أن نذكر نقطة أساسيّة مهمّة؛ لتوضيح الصورة، وهيَ أن هناكَ فرقًا بين الروح والنفس، حتى لو كان الفرقُ غيرَ محسومٍ حتى الآن، إلا أنّ الإجماعَ الأكبرَ يقع على وجود فرقٍ هائلٍ بينهما؛ فالأولى رآها أكثرُ الفلاسفة مختصّةً بالإنسان فقط، وذلك لأنّ شعورَه وعواطفَه ورغباتِه -كما ذكرنا سابقًا عن مكوّنات الروح لدى أفلاطون- أكبرُ من غيره من المخلوقات. أمّا الثانية فهي لكلّ المخلوقات، فلكلّ مخلوقٍ نفسٌ تموت وتحيا بموته وحياته، وهكذا دوالَيك.
أخيرًا، فإنّنا نطرحُ مفهومًا لا يعلمهُ الكثيرون، وذلك بالرّجوع إلى القرآن، وكما قال محمود درويش: “لا بدّ من نثرٍ إلهيٍّ لينتصرَ الإله”، نعودُ مجدّدًا إلى القرآن الكريم، المعجزة الوحيدة التي لا نشكّ برؤيتها كلّ يوم.
الرّوح في القرآن:
حينَ كنتُ أسألُ معلّمةَ التربيةِ الدينيّةِ عن الروح، كانت تخبرني بأنها تخصُّ اللهَ وحدَه بدليل آية: “ويسألونَكَ عن الروح قُلِ الروح من أمرِ ربّي”، فاعتقدتُ دائمًا أن المقصودَ كان هو أنني يجب أن ألتزمَ بشؤوني، وأتركَ الروحَ والتفكيرَ بها؛ لأنّها من شأنِ اللهِ وحدَه، ثمّ ظهرَ لي في قراءاتي عالمٌ عربيٌّ فيلسوف، أعطى القرآن ما استطاع إعطاءَه من حقٍّ في تأمّله وفهمه؛ فأحضرَ الآيةَ المذكورةَ سابقاً، وطرحَ وجهةَ نظرٍ جديدة، مثلاً: حين ترى شخصًا يصلّي، أترى الصلاةَ نفسَها، أم ترى الشخصَ يصلّي؟ حين ترى شخصًا يصوم، أترى الصيامَ نفسَه، أم ترى الشخص يصوم؟ الجواب سيكون الخيارَ الثاني بكلّ تأكيد، -إلّا إذا كنتَ ملاكاً يرى ما لا نراه نحن-.
من هُنا، نصلُ إلى أنّ أمرَ الصلاةِ أو الصيامِ غيرُ مرئيّ، ولكنّه موجودٌ فعلاً! فالرّوح إذًا هي أمرٌ من أوامرِ اللهِ لخلقه! وهذا يفسّر لعددٍ غير قليلٍ من الناس لماذا يشعرون بالإنهاك حين يبتعدون عن صلاتِهم، أو صيامهم، أو طاعة ربهم! لأن الروحَ الّتي فينا، تبتعد عنّا، والروح أمرٌ من أوامر الله فينا. هكذا، فإنّنا حين نموت وتبقى روحنا خالدةً، فإنّ عملَنا و طاعتَنا لأوامرِ اللهِ، هو ما يبقى خالدًا بعدَنا.
إنَّ كلَّ ما هوَ حيّ، هو روحٌ قائمةٌ -برأيي-، وإن عارضَ الرأيَ أكبرُ الفلاسفة، كقولهم أنّ الروحَ للإنسانِ فقط. الشجرة تطيعُ أمرَ الله فتُثمر، والعصفور يطيع أمرَ الله فيغرّد، وأنا أطيعُ أمرَ الله فأصلّي. والرّوح، “نثرٌ إلهيٌّ” كذلك، إعجازٌ آخر نستطيع أن نعرّفَه ألفَ مرّة ثمّ نصيبَ أو نخطئ. فتأمّلوا، إن التأمّلَ في إبداعِ اللهِ حقٌّ وواجب، وكما قال مولانا الرّومي: “يوماً ما، ستهتدي روحكَ إليه”، ستهتدي روحكَ إلى تعريفها، تقويمها، أصلِها، فهلّا وجدت السبيل إلى روحٍ تدوم حتى دونَ جسد؟
افعل خيراً يدُم لك حتّى القيامة…
Continue reading الروح ، حقيقة أم وهم؟ at BirHakaya – بيرحكايا.