
كثيرًا ما يُخطئ النّاس في فَهم معنى الجاهليّة، فيظنّون أنّها من الجَهل، أي قلّة العِلم، وهذا تفسيرٌ خاطئٌ وظلمٌ عظيمٌ للعبقريّة الّتي احتواها ذلك العصر، كانت تسميته بذلك الاسم لما غرقَ أهله في ظلُمات الخمرِ والمَيسر ووأد البنات وما إلى ذلك من المحرّمات الّتي تُذهِب العقل وتخدّر النفس والضمير، في مقال اليوم سنناقش غيضًا من فيض العبقريّة والإنجاز الفكريّ الّذي قدّمته لنا الجاهليّة.
أوّل ما تميّز به هذا العصر كان الشّعر، فالشّعر الجاهليّ يعتبر ذروة ازدهار الشّعر العربيّ، ونرى ذلك واضحًا في المعلّقات، وهي قصائد طويلة كان يعلّقها قائلوها على ستار الكعبة، وهي لغةً ومعنىً من أعمق وأبلغ ما قيل في الشّعر العربيّ، وهذا الموضوع تطرّق لهُ حسين البرغوثي في كتابه “السادن، النّاقة: قصص عن زمن وثَنيّ” فعرضَ لنا الذّكاء الفائق الّذي وضعهُ شعراء الجاهليّة في شعرهم وعرضَ لنا علاقة شعرهم بالهندسة!
كما نعلمُ جميعًا فالجاهليّة كانت قائمة على عبادة الأصنام والربّات والآلهة سوى الله، منها عَشتار وهي الرّبة القمريّة واللات والعزى ومناة وغيرها، وكانت عبادتهم لهذه الأصنام تربطهم بتقديس بعض الأرقام كالرّقم ثلاثة، وهو الرقم الّذي ربطهم بعشتار لأنّ لها ثلاثةَ أطوار: الهلال والمحاقُ والبدر، فيعرض لنا حسين البرغوثي معلّقة امرؤ القيس كمثال والّتي مطلعُها:
“قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقطِ اللّوى بينَ الدَّخول فحوملِ“
ففعل الأمر قفا فعل مثنّى ومع امرئ القيس يصبحون ثلاثة. وأمثلة كثيرة تبيّن لنا تقديس العرب للأشكال الهندسيّة بناءا على الأرقام، فالعرب قدّسوا المثلث والمربّع والدائرة، فكانوا يطوفون حولَ الكعبة المربّعة، طوافًا دائريّاً كمثال، وتطوف النساءُ العرايا للآلهة دائريًا حولَها وهكذا، ومن نفس معلّقة امرؤئ القَيس نجدُ بيتًا آخر يقول:
فتوضحُ فالمقراةِ لم يعفُ رسمُهـا لِمَــا نسجتْها من جنوبٍ وشمـــألِ
رخـــاءٌ تسحُّ الرّيح في جنبَــاتِهـــا كساها الصّبا سحقَ الملاءِ المذيَّلِ
نجدُ أن امرأ القَيس ذكر ثلاثةَ أنواعٍ من الرّياح وهيَ: الجنوب والشّمال والصّبا من أصل أربع أنواع هي الشمال والجنوب والصّبا والدبور، هذا مقتطع ممّا عرضه حسين البرغوثي بالنسبة لعبقريّة الجاهليّة، وإثبات آخر على الإنتاج العقليّ الرّهيب لديهم.
تميُّزٌ آخر هو النّثر الجاهلي، فالّذي قرأ نثرًا جاهليًا رأى النّقص في غيرِه نسبةً إليه، وخصائص النّثر في ذلك العصر زادتهُ جمالاً وهيَ سببٌ رئيسيٌّ في كونِهِ بهذا الرّونَق، فقد كان النّثر الجاهليّ بألفاظٍ سهلةٍ لكنّها أصيلة، وأمثال كثيرةٌ مليئةٌ بالواقعيّة، والوضوح بعيدًا عن التكلّف مع قلّة الصور الفنيّة، وهذا ما زادَ من هَيبتِه إن صحَّ التّعبير، فالنّثر الجاهليّ من خطابة وأمثال وحكَم ووصايا ورسائل وغير ذلك، كان من أبرز معالم الازدهار الثقافيّ في ذلك العصر.
من هُنا عرفنا القليلَ جدّاً عن عبقريّة العصر المسمّى بالجاهليّة، ومن جديد، هذا غيضٌ من فيض إنتاجهم الأدبيّ والفكريّ الأكثر من عبقريّ.
-كتب ننصح بقراءتها لتعميق البحث:
- السادن، الناقة: قصص عن زمن وثنيّ، حسين البرغوثي.
- شرح المعلّقات السبع، الزوزنيّ.
- شرح القصيدة الرّوح، محمّد يوسف رشيد
- الشّعر الجاهليّ، دراسةٌ في منازع الشّعراء، محمّد محمّد أبو موسى
هل تنصحُ بكتبٍ مشابهة؟
Continue reading الجاهليّة، أُمُّ العبقريّة الأولى at BirHakaya – بيرحكايا.